عام 2016، قدم المخرج المصري المولود بالإسكندرية محمد رشاد فيلمه الوثائقي الطويل الأول «النسور الصغيرة»، شاهدته وقتها، وافتتنت بفكرته التي ربما تنطلق من تخيل «ماذا لو ولدت لأب غير أبي؟!»، وهو سؤال جريء يخوض المخرج في استكشافه من خلال مقارنة بين علاقته بأبيه العامل وباقي آباء أصدقاءه اليساريين الذين لهم آباء مثقفين منخرطين في العمل العام، والذين حظوا بطفولة يسارية في نوادي النسور الصغيرة، وهي الأشبه بنواد كشافة لأطفال اليساريين في مصر الثمانينيات.
في ذلك الفيلم، لم يركز رشاد فقط على الأوجه السياسية لموضوع النسور الصغيرة، وإنما كان بشكل ما يستكشف مفهوم أن تكون أبًا، وهو ذات السؤال الذي يرافقه إلى فيلمه الروائي الطويل الأول «المستعمرة» والذي عُرض حديثًا في مسابقة «وجهات نظر» في أولى دوراتها في الدورة الـ75 لمهرجان برلين السينمائي الدولي.
يفتتح رشاد فيلمه الأحدث بمشهد صادم إذ يقف طفل في بدايات مراهقته مارو بينما يهدد أمه وأخيه الأكبر حسام أن يقتل نفسه ويحمل سكينًا تكبر حجم ذراعه ذاته. يهددهم بأنهم إذا لم يسمحوا له بالعمل وترك المدرسة فإنه سينهي حياته، تنهار الأم وتحاول تهدئة الموقف، بينما ينفعل الأخ الأكبر على أخيه مُكذبًا تهديداته وغير عابئ لها، ينتهي المشهد بانتصار لمارو وينزل إلى العمل مع حسام.
مشهد من الفيلم الروائي «المستعمرة»
ينطلقان من مكان يبدو كحي من تلك الأحياء العشوائية المجاورة للطريق السريع الواسع، حي نستطيع تخيل عشوائيته (بمعنى أنه قد بني بلا أي تنظيم حكومي أو رسمي) بينما يصعد الأخوين طريقًا ترابيًا إلى الأعلى ليصلوا إلى الحافلة التي ستقلهم إلى مكان عملهم الجديد «المستعمرة». هكذا نستطيع من المشاهد الأولى معرفة من هم أبطالنا دون حوار كثير، أناس يعيشون على الهامش ويصعدون طرقًا وعرة كل يوم فقط للوصول إلى حافلة ستمشي في طريق طويل حتى تصل إلى مكان العمل المُسمى باسم يعني مكانًا يخضع لقانون وسيطرة رسمية، فتكون رحلتهم كل يوم هي انتقال من مكان هامشي يحكمه قانون بدائي إلى مكان رسمي تُطبق فيه القوانين – على الأقل بشكل ظاهري.
عند الوصول إلى ذلك المكان، ينزل العمال من حافلاتهم لنكتشف أن هذا المكان هو مصنع كبير مليء بالماكينات، والساحات التي تشغلها الخردة الصناعية، داخل المبنى الرئيسي للمصنع ماكينات كبيرة كُتب عليها «صُنع في الاتحاد السوفيتي» ولوحات مُعلقة على الحوائط تُحذر من خطورة سوء استعمالها، ووسط تلك الماكينات، التي نعرف بعد ذلك أنها ربما تكون السبب الرئيسي في مقتل الأب، مكتب المهندسين الذي يقع بالأعلى أيضًا وسط كل تلك الماكينات المُنتجة لقطع غيار أو شيء من هذا القبيل.
يبدأ الأخ الكبير مقابلته في المصنع، بكلام مع المهندس يوحي بأن الأخير لن يسأله على سجله الجنائي في مقابل الاتفاق، ونفهم ضمنًا أن هذا الاتفاق يتعلق بمقتل الأب وصمت الابن عن فتح باب التحقيق، ومن هنا تبدأ رحلة حسام ومارو بداخل المصنع فيبحث الأول عن تسيير الأمور بسلمية من أجل حماية أخيه الأصغر، الذي يبدو أنه قد جاء بالأساس إلى المصنع ليعرف من قتل والدهما.
مشهد من فيلم «المستعمرة»
هكذا فإن رشاد يبدأ أحداث فيلمه وحكايته من فصلها الثاني، إذ يمكن رؤية الحدث المحفز بموت الأب وهو ما لا نرى منه أي تفصيلة، بل ندخل إلى علاقة الأخين ببعضهما وبوالدتهما. هذه النقطة ربما قللت من ميلودرامية القصة بل وقربتها من واقعية خشنة لقصة لا تنذر بأي نهايات سعيدة. إلى جانب ذلك، فإن تكشف جوانب شخصية حسام تظهر من خلال جمل حوارية مقتضبة، نعرف من خلالها أن ماضيه احتوى على أحداث يحاول هو تناسيها وبدء حياة جديدة إلا أن في تلك الظروف، فإن غلطة واحدة ترتكبها في بدايات شبابك تحكم على حياتك كلها إلى الأبد مهما حاولت تغيير ذلك.
نرى في الرحلة تطورًا لعلاقة الأخين ببعضهما، فيتعلم حسام من أخيه الصغير كيف يكون أبًا وهي أمور ربما لم يجدها مع أبيه في حياته، كما نرى علاقة حسام بأمه وما تحمله من تصالح صامت، فتكون هي ربما الوحيدة المستعدة بشكل ما لمسامحته ورؤية محاولاته للتغير، وأخيرًا نرى علاقة حب مكبوتة وصعبة التحقق بينه وبين فتاة تعمل معه بالمصنع. كل تلك العلاقات تتطور بحوار قليل للغاية، لكن المخرج هنا يعوض ذلك بأدوات حكي سينمائية بما في ذلك، حركة الممثلين وأماكنهم بداخل الكادرات وموقعهم من باقي المكونات الجامدة وبينها الآلات والطرق والمدينة ذاتها، وأخيرًا أصوات البيئات المحيطة بهم ومنها أصوات الماكينات المشوشة بشكل ما لكل صوت حولها، والمعبرة بشكل ما عن غليان تلك الشخصيات الداخلي.
لا نستطيع الخوض في ما سيحدث في الرحلة أكثر من ذلك، لكن ما يمكن أن نقوله على مستوى صناعة الفيلم، أن مخرجه يختار العديد من الاختيارات المميزة لصناعة تلك القصة بشكل يتماشي مع ما يحاول قوله عن ذلك العالم، بداية من الصورة غير المجملة، ذات الألوان الباهتة الغالب عليها الأزرق والرمادي والبني، والقطعات الخشنة للمشاهد، والحوار المُقلل إلى أقصى درجة والأماكن سواء المصنع أو الحي أو البيت الذي تسكنه الشخصيات، واختيار الممثلين غير المحترفين أو المحترفين غير المشهورين، وشريط الصوت المزدحم بأصوات الماكينات، التي تصبح في أحيان كثيرة بديلة عن الحوار في حكي ما تشعر به الشخصيات كما ذكرنا من قبل. تبني تلك التفاصيل عالم الفيلم لتحكي جوهر تلك القصة: مشاعر هؤلاء الشخصيات التي تشعر بعدم وتيه شديد في عالم لا يرحم ولا يغفر.
يستكشف رشاد في فيلمه الروائي الطويل الأول عالمًا لم تقترب إليه السينما المصرية في سنواتها الأحدث، من خلال قصة تشويق وانتقام مقدمة في قالب مختلف، وفيها يستكشف كيف تبدو علاقات هؤلاء البشر الذين يعيشون على هامش المجتمع تحت ضوضاء الماكينات وصعوبة الظروف، كما يستكشف كل المعاني الحياتية في وضع كهذا من حب أو أخوة أو أبوة أو أمومة بأسلوب سينمائي، يحاول استخدام كل أدوات عالمه الأصلية من أصوات أو أشكال أو أماكن أو حتى ملامح أبناء ذلك العالم.
«المستعمرة» عمل مصري يستحق الاحتفاء بكل تأكيد، يضيف إلى تجارب السينما المصرية المستقلة في سنواتها الأخيرة الكثير، ويؤكد وجود الكثير من الحكايات التي لم تُحك بعد، كما يُظهر لنا أن رشاد الذي نجح قبل عدة سنوات في صياغة فيلم وثائقي عن والده وعن عالم اليساريين المصريين في آن، قادر على تقديم ذات القصة ربما في قالب روائي ذو طبيعة متفردة لا تقدم فقط قصة انتقام وإثارة بل ربما تقدم قصة ذو بُعد فلسفي عميق يذكرنا بأعمال سينمائية عظيمة مثل «أوسلو، 31 أغسطس» لواكيم تريير أو ربما بأسطورة سيزيف في شكل معاصر.